• ٥ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

هل استطاع العالم تجاوز الدكتاتورية؟

حكمت البخاتي

هل استطاع العالم تجاوز الدكتاتورية؟

 

تعدّ الدكتاتورية هي الأكثر بُغضاً إلى النفس في العالم الحديث والأكثر اشمئزازاً في العالم المعاصر.

 لقد رشّح الشعور بالعار تجاه الدكتاتورية عن تاريخ مليء بالأنانية اللاإنسانية، ورسّخ الحسّ بها بهذا العار الذي تمثّله، ومن العيب العرفي الحديث صارت أخلاقيات وسلوكيات الدكتاتورية، وهي توضع دائماً في المقاربة السالبة والمقارنة السلبية مع الديمقراطية التي تعدّ الأصلح سياسياً وعرفياً في العالم الحديث، وهي باتّجاه التطوّر إلى تقاليد راسخة في الحياة الحديثة ونموذجها في التقاليد الديمقراطية البريطانية.

 وهو تطوّر يأتي في أعقاب انقراض الدكتاتوريات أو هي في طريقها إلى الانقراض الكلّي فيما تبقّى لها من أنظمة وسلطات أيقنت هي قبل غيرها وأيقن العالم بطبيعة الحال أيضاً باستحالة بقائها، وهو انقراض يؤشّر تاريخياً انقراض العالم القديم بأنظمته وأفكاره السياسية بل والاجتماعية، لأنّ الدكتاتوريات هي أبرز نتاجات العالم القديم السياسية والاجتماعية، وانتشرت توقعات اندثار الدكتاتوريات وإلى الأبد، فالديمقراطية أو أفكارها وصلت إلى أقصى بقاع العالم وأصبحت تهدّد هذه الأنظمة السياسية الباقية من العالم القديم.

لكن هل باستطاعة العالم تجاوز الدكتاتورية وإلى الأبد؟

سؤال قد يثير حفيظة الذين يؤمنون بالديمقراطية أو بالخلاص الديمقراطي الناتج عن توقعات الزوال الحتمي والتاريخي للدكتاتورية، وإثارته تكمن في تشكيكه المتوقع بإمكانية أو قدرة التجاوز للديمقراطية وإلى الأبد، وهو الانطباع الأوّلي الذي يمكن أن يتركه هذا السؤال لاسيّما وأنّ تجارب التاريخ الأخيرة تفند هذا السؤال أو الفكرة التي يتضمنها. فقد كان القرن الثامن عشر الميلادي هو عصر التنظير للديمقراطية أو عصر التنظير الديمقراطي وعلى الضد من الدكتاتورية، وكان القرن التاسع عشر الميلادي هو عصر التطبيق للديمقراطية أو عصر التطبيق الديمقراطي وهو الردّ العملي على الدكتاتورية، وأمّا القرن العشرين فهو عصر الممارسة الكاملة للديمقراطية أو هو العصر الديمقراطي فلا مجال للدكتاتوريات وهو الردّ النافذ على الدكتاتورية وهو تحوّل أو تطوّر يكشف عن انقراضات متتالية للدكتاتورية في العالم الحديث.

نعم استطاع العالم أن يتجاوز الدكتاتورية أو هو في طريق التجاوز الكلّي، لكنّها ذلك النوع من الدكتاتوريات ذي الأُفق الضيِّق والمدى التاريخي المحكوم عليه بالزوال ليس بتأثير الديمقراطية فحسب بل لعدد من الأسباب الظرفية والتاريخية، فهي دكتاتورية تعجز عن امتلاك العمر الطويل وتقصر عن وجود أبدي، إنّها تحمل عناصر فناءها وزوالها بذاتها ومضمونها منخور بالضعف رغم شكلها القوي، إنّها الدكتاتورية السياسية التي ظلت تعرف ذلك المصير وتلك النهايات مبكراً في التاريخ البشري وفي هذا التاريخ قالوا: «هلك من استبد برأيه» والدكتاتورية هي مجرّد استبداد بالرأي في أبسط تعريف لها.

لكن هناك أنواع من الدكتاتوريات تظل عالقة بالتاريخ البشري أو بحركة هذا التاريخ وهي تشكّل جزء أساسياً في مركب الحياة البشرية التي يكون التاريخ ارشيفها ومذكراتها التوثيقية، وتقع في صدارة الدكتاتوريات الراكزة في العلاقات التراتبية في الحياة البشرية هي الدكتاتورية الفكرية التي يمارسها أصحابها من قادة الرأي والفكر عبر الإقناع المستمر والتلفيقي في أكثر الأحيان وحتى المخادع حين تصل الدكتاتورية الفكرية إلى حدود التوحش والتطرُّف وهي تشتغل على ترسيخ صحّة المحمول من الأفكار لديها في ما يخصّ الموضوع الذي يعدّ مشتركاً بين مجموعة من البشر ولكنّه يجير بالنتيجة لصالح أو مصالح فئة محدودة منهم.

وفي ما يعدّ مشتركاً فكرياً تكمن أوّليات الدكتاتورية الفكرية التي من الممكن أن تكون ذات سياسات ناعمة باستبدالها وسائل وآليات القسر المادّي بوسائل القسر الفكري والثقافي لا سيّما آليات المنطق الأرسطي القديم والحدي، ونحن نؤشّر القديم بخصوص هذا المنطق للتنبيه على العلاقة بين الدكتاتورية وأفكار العالم القديم.

 فالمنطق الأرسطي يبدأ بالمقدّمة/الكبرى والصغرى/النتيجة، فالنتيجة كامنة وفق هذا المنطق القسري في المقدّمة، وهي محاولة غير واعية في قمع النتيجة بالاحتواء البكر لها في المقدّمة، وفيها يتم قمع أي نتيجة أُخرى قد تكون على خلاف المقدّمة أو تبطل دلالة وصدق المقدّمة، فالقمع هنا هو أهم صفات ووسائل الدكتاتورية، وهي ممارسة فكرية قديمة ومنها تولّدت الدكتاتوريات الفكرية القديمة، ومنها الدكتاتورية الكهنوتية المسيحية في القرون الوسطى.

 ونجد تطبيقاتها الأكثر قسراً في البيان القادري الذي أصدره في العام 408هـ الخليفة العباسي القادر بالله تـ422هـ وفيها تأسّست المقدّمات الأُولى للتكفير في الحضارة الإسلامية. وقد مهّدت النُّخب الفكرية التي تمارس الوصاية على البشر وأفكارهم وعقائدهم وسلوكهم إلى نشأة الدكتاتوريات الفكرية، وقد انحشرت وبشكل لاواع في مفهوم الجماعة فتتحوّل الأفكار الملقنة من قبل هذه النُّخب والمستندة في صحّتها إلى دلالات المقدّمة والنتيجة المتضمنة فيها تتحوّل إلى تشكيلات روح الجماعة التي تعدّ معيار الانتماء إلى الجماعة من خلال الحسّ البدائي بها عن طريق الإيمان برؤية هذه الروح العقائدية والثقافية.

 فالأفكار في هذه العلاقات المترابطة ضمن الجماعة تتطوّر إلى عادات وتقاليد فكرية ومعنوية ومادّية معبرة عن الخضوع المستمر إلى روح الجماعة، ويتم بناء المتخيل للجماعة في الوعي الجماعي عبر الرصف المستمر لهذه الأفكار في تعاضدها وإنتاج بعضها للبعض وبشكل يفيد المعنى الدائري فيها، وهو استحكامات هذا الغلق من أجل المحافظة على الجماعة، وهو التبرير الذي تطرحه دائماً الدكتاتوريات السياسية بل وكلّ الدكتاتوريات العالقة منذ العالم المعنى غير المنفتح على النهايات الممكنة ممّا يحصر الجماعة في دائرة مغلقة من الأفكار والتصوّرات حول الذات.

 وهنا نطرح مثال مركزية الذات الأوريية ومثال المركزيات الدينية الأصولية أو فكرة الشعب المختار، وتتكفل الدكتاتورية الفكرية بإدامة هذا الغلق في اللاوعي الاجتماعي في عالمنا الحديث، وهو ما يعيد التساؤل حول مصير كافة الدكتاتوريات في العالم الحديث وهل باستطاعتنا تجاوزها؟

ارسال التعليق

Top